يتميز لبنان بأنه بلد كثير التنوع، من حيث الجغرافيا والسكان والطقس وغيره، فترى فيه الجبال المغطاة بالثلوج، والسهول الخضراء المليئة بخيرات البلد المختلطة بجهود كل من في هذا البلد، والبحر الذي يمكن رؤيته من أي منطقة تقريباً إلى الأنهار التي تحتضن جبال وسهول لبنان. وعند التجول في شوارع بيروت من المستحيل أن لا تستطيع رؤية التنوع الديني والطائفي والعرقي الذي يكون في المحصلة مشهداً جمالياً لا يمكن تكراره وشعباً مترابطاً محباً لوطنه.
وإن صح الوصف، وأجاز التعبير، لبنان هو وجه إمرأة حسناء، لديها في ملامحها وتضاريس وجهها جمال وجاذبية مميزة، وما لا يوجد في أي وجه آخر! فان المرأة الحسناء إن نزلت دموعها تزيدها رقة، لكن هذه المرة ! ومنذ مدة ليست بقصيرة تسيل دموعها محملة بمياه الصرف الصحي!
لبنان يعاني من تلوث كبير في مصادر المياه بسبب سوء الصرف الصحي، قلة محطات التكرير الخاصة بتكرير مياه الصرف الصحي، عدم وجود مكبات نفايات صلبة بشكل كافي، وغيره من الأسباب التي جعلت من مياه لبنان مياه ملوثة بشكل كبير يمكن أن يصل إلى 100% في بعض المناطق.
© • •
Litani River Pollution
في هذا البلد الفريد من نوعه، والذي تميزه كثرة الاختلافات والتناقضات فيه، يشتكى اللبنانيون من تلوث مصادر المياه التي تصل في بعض المناطق إلى نسبة المئة بالمئة، كما يشتكون من قلّة محطات تكرير مياه الصرف الصحي، وعدم كفاية مكبّات النفايات الصلبة، في حين يتقاذف المسؤولون الاتهامات.
ولو تأملنا أسباب التلوث الرئيسة لوجدنا بأن النفايات السائلة (مياه الصرف الصحي) التي لم تتم معالجتها إلى الآن، هي الأكثر خطورة والأكثر ضرراً، إذ إنها المسبب الرئيس بتلوث المياه الجوفية والمياه العذبة، وهي المسبب رقم واحد بتلوث مياه الأنهار والبحر.
ولو احتسبنا ما ينتج الفرد بشكل يومي من المخلفات الصلبة والسائلة، لوجدنا بأنه ينتج حوالي الكيلوغرام الواحد من النفايات الصلبة، كمعدل عام، في حين يمكن أن ينتج ما يتجاوز المتر المكعب من النفايات السائلة (مياه الصرف الصحي). وإذ يُقدّر المعدل العام لكلفة معالجة النفايات الصلبة حسب الدراسات بحوالي مئتي دولار أمريكي للفرد سنوياً، فإن كلفة معالجة مياه الصرف تتجاوز الـ 300 دولار سنوياً، بمعدل دولار أميركي لكل متر مكعّب.
بدأ لبنان الالتفات لمشكلة الصرف الصحي في بداية التسعينات. آنذاك كان مستوى منشآت الصرف الصحي الموجودة يقتصر على شبكات متفاوتة الجّودة بين منطقة وأخرى. في حين أن المدن الرئيسة كانت مزودة بشبكات غير مكتملة، تفتقر إلى محطاتٍ لمعالجتها. أما معظم التجمّعات السكّانية الصغيرة، فهي أصلاً غير مزوّدة بشبكات أو بمحطات.
منذ ذاك الوقت تتفاقم مشكلة تلوث المياه يوماً بعد يوم، وتتكاثر المصبّات البحرية العشوائية التي تلوّث البحر والشاطئ، والجّور الصحيّة والمجاري السطحية العشوائية التي تلوّث طبقات المياه الجوفية.
بعد إدراك خطورة هذه المشكلة، بدأ لبنان محاولات لإيجاد حلول لمشكلات الصرف الصحي ووضع استراتيجيات وتنفيذ مشاريع لمحطات تكرير. ومن المؤسسات التي بدأت العمل في هذا الصدد "مجلس الإنماء والإعمار" حسب التقرير الذي تم نشره من قبله سنة 2015 والذي يوضح آلية عمله وأهدافه، والاستراتيجيات التنفيذية للمشاريع المتعلقة بقطاع الصرف الصحي، والإنجازات التي حققها المجلس منذ سنة 1992 إلى سنة 2014 بما يتعلق بهذا الشأن.
تبين آخر الدراسات الصادرة عن وزارة الطاقة والمياه في «الاستراتيجية الوطنية لقطاع مياه الصرف الصحي»، بأن معدل مياه الصرف المنتجة في لبنان تقارب 310 ملايين متر مكعب سنوياً، منها 250 مليون متر مكعب حضرية ومنزلية و60 مليوناً صناعية.
والمعلومة الصادمة هي أن 8% فقط من هذه الكميات الضخمة تصل إلى أربع محطات تكرير لمعالجتها (صيدا وغدير وبعلبك واليمونة)، بينما مياه الصرف الصناعية لا تعالج وتصب في الأنهر والوديان والبحر. مع العلم أن أنظمة معالجة المياه المبتذلة المنزلية لا تصلح لمعالجة تلك الصناعية.
وتبعاً للبيانات المتوفرة، هنالك 166 محطة معالجة في لبنان لا تعمل بالمطلق، أو لا تعمل بشكل مقبول، بينها أكثر من 60 محطة صغيرة متعثّرة نُفّذت على مستوى بلدي. حيث تم إنشاء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي من دون شبكات، او شبكات للصرف من دون محطات. وكل ذلك بقروض وفق استراتيجية لم تكن شاملة أو ممنهجة.
على سبيل المثال..!
تصدرت العناوين في الآونة الأخيرة بأن "مجلس الإنماء والإعمار رتب على الدولة ديونا تفوق مليار دولار لإقامة محطات تكرير منذ التسعينيات فيما لا يكرر لبنان مترا مكعبا واحدا من المياه!" وهذا ما جاء نقلاً عن مدير عام وزارة البيئة برج هتجيان.
بينما نشر “مجلس الإنماء والإعمار” في معرض ردّه على هذه الإدعاءات، بياناً ورد فيه أنّ قيمة العقود المنجزة من قبله في قطاع الصرف الصحي مابين 1992 إلى 2017 وهي حوالي 745مليون دولار أميركي. وبأنها تشمل محطات تكرير مياه، ومشاريع لتمديد خطوط وشبكات صرف صحي وتشييد محطات ضخ، وبعض أعمال التشغيل والصيانة، بالإضافة لتكاليف الدراسات والإشراف على التنفيذ.
وأكد مجلس الإنماء والإعمار أن عدد محطات التكرير المنفذة من قبله يبلغ 22 محطة تكرير من بينها 15 محطة موضوعة في الخدمة حالياً. أما المحطات السبع الأخرى فهي بانتظار استكمال الشبكات أو في مرحلة التجارب تمهيداً لوضعها في الخدمة.
هذاما يحدث معظم الوقت في لبنان، سيناريو يعيد ويكرر نفسه من مشاحنات وتهم توجه من مسؤول إلى آخر ومن وزارة إلى أخرى تتهمها بالتقصير أو بالفساد، سيناريو التخلص والتملص من المسؤولية. سيناريو سئم منه اللبنانيون الذين يطالبون بإقامة حلول جذرية لمشكلة التلوث الذي ينتشر مهدداً صحتهم وحياتهم!
- هل هي مشكلة دعم وتمويل ؟!
الدعم ليس السبب الوحيد في فشل إدارة مشاريع محطات التكرير، كما يروج دائماً لتبرير الفشل أو البحث عن مصادر دعم وتمويل جديدة.
العديد من مشاريع إنشاء وتنفيذ محطات تكرير الصرف الصحي قوبلت بمعارضة شعبية في أكثر من مكان، لأنها لم تأت ضمن استراتيجية متكاملة وهيكل إداري منظم وواضح، أو بدراسة لتبعيات هذا المشروع على المنطقة ، ولافتقار حملات التوعية لمواجهة المشاكل الثقافية والنفسية التي تقف غالبا خلف المواقف السلبية تجاه النفايات البشرية عامة.
نخلص من ذلك بأن الاستراتيجية، التنظيم والتنسيق بين الوزارات والمسؤولين وإجراء الأبحاث والدراسات بشكل دوري بما يتعلق بهذا القطاع ....هو ما ينقصه وليس التمويل أو الدعم المادي!
-ستة أطراف.. من هو المسؤول؟
من هو المسؤول الأساسي عن مشاكل محطات التكرير بشكل خاص؟ وما سبب هذه المديونية العالية في ظل كل المشاريع التي تتم مناقشتها ما بين أصحاب القرار والمسؤولين عن قطاع المياه والصرف الصحي؟
أسئلة محورية، مطروحة منذ مدة تنتظر الإجابة أو الحلول الفعلية على أرض الواقع من قبل الجهات المعنية.
قطاع الصرف الصحي ومحطات التكرير هو مسؤولية مشتركة ما بين ستة أطراف حكومية على الأقل، هي كل من وزارة الطاقة والمياه، ومؤسسة المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، ومجلس الإنماء والإعمار, ووزارة الزراعة ، ووزارة البيئة, ومجلس الوزراء. بشكل أساسي وواضح، كلَ حسب مسؤولياته ومهامه. ولو تمت عملية التنسيق ما بين هذه القطاعات بإدارة منظمة على تنفيذ مشاريع محطات التكرير لكانت النتيجة أفضل بكثير مما هي عليه الآن.
المشكلة يمكن أن تتلخص بأنها مشكلة سوء إدارة وتضارب صلاحيات، يضاف إليها فقدان الثقة بين المواطن والإدارة.
- محطات التكرير وارتباطها بمشكلة الليطاني...
. ينتشر التلوث في لبنان ليشمل تقريباً جميع الأنهار والبحر. فمثلاً نهر الليطاني الذي يعتبر من أكبر الأنهار التي تجري في لبنان من الشمال إلى الجنوب، ويتعدّى طوله الـ 170 كلم ويمتدّ حوضه الأعلى على مساحة 1.500 كيلومتر مربع (10 في المئة من الأراضي اللبنانية)، ويغذيّ 99 مدينة وقرية، تعرض للتلوث بشكل حادّ، ومازالت مشكلة تلوث هذا النهر في تفاقم.
وفي مقابلة أجريتها مع رئيس المصلحة الوطنية لنهر الليطاني السيد سامي علاونة, قال بأن "هذا التلوث هو جريمة يشترك بها العديد من الأطراف تبدأ بمسؤولي وصانعي القرار مع قلة الوعي لدى المواطنين، وحتى النازحين واللاجئين الذين يتمركزون على ضفاف نهر الليطاني". وباعتقاده فإن "جزءاً كبيراً من حل مشكلة التلوث في النهر وحل مشكلة التلوث في لبنان بشكل عام هو الاهتمام أكثر بمشاريع محطات تكرير مياه الصرف الصحي."
وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل كان قد صرح "أن هناك حاجة الى ما يقارب المليار دولار لتنظيف مجرى الليطاني وحمايته، لافتا إلى أن هذه الكلفة الكبيرة سببها الإهمال"، فالسدّ نفسه على حد قوله لم يكلف بناؤه حينها أكثر خمسين مليون دولار.
وتابع الوزير أن حكومته صرفت حوالي مليار ونصف دولار لحل مشكلة الصرف الصحي في لبنان "حيث نرى التناقض (بين هذا الرقم) وقلة محطات التكرير التي قد تم بناءها من قبل الدولة، لأن التخطيط والتنفيذ متناقضان مع بعضهما البعض"، مشيراً إلى أن أكثر المشاريع لم يتم اكمالها ومعتبراً أن "هذا شكلً من أشكال الفساد".
ثلاث سنوات
في شباط 2019 طلبت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني من مجلس الإنماء والاعمار إيداعها بيانات حول "محطات معالجة الصرف الصحي الواقعة ضمن حوض النهر لتمكين المصلحة من حماية الموارد المائية بموجب القانون 63/2016 والقانون 77/2018 ومراقبة عمل هذه المحطات".
والآن بعد أن أرسل مجلس الإنماء والإعمار هذه القائمة وتبين بأن أكثر من نصف المحطات الواقعة ضمن حوض الليطاني لا تعمل، يطالب ناشطون وخبراء بسرعة التحرك للحد من التلوث في النهر، وفي شبكة الصرف الصحي في لبنان عموماً.
وبحسب تقارير إعلامية نقلاً عن مصادر في الحكومة اللبنانية، من المتوقع انتهاء الأعمال بمنظومة تكرير الصرف الصحي خلال ثلاثة أعوام، وهو ما يستدعي لجوء البلديات إلى حلول بديلة خلال هذه الفترة كإنشاء الحفر الامتصاصية للتخفيف من التلوث.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو، هل ستتم حل مشكلة الصرف الصحي والتكرير فعلاً خلال الثلاث سنوات القادمة؟ أم أن ملف الصرف الصحي سيبقى عالقاً رهن المناقشة، دون تنفيذ، كما هو الحال منذ بداية أزمة الصرف الصحي ومحطات التكرير؟
Share this page on