نهر الليطاني الذي كان مقصد الشعراء في خمسينيات القرن الماضي أصبح "كابوسا" ولربما "نهر الموت" كما يصفه العديد من اللبنانيين، ومنهم حوالي مليون ونصف المليون نسمة يقيمون على ضفافه أو بالقرب منه.
يربط نهر الليطاني سهل البقاع اللبناني بالجنوب، فهو ينبع من ينابيع العليق في بعلبك ويصب في البحر المتوسط على بعد ثمانية كيلومترات من شمال مدينة صور. ويعد أطوال انهار البلاد إذ يبلغ طوله 170 كيلومتراً أما مساحة مسطّحه المائي فهي 2175 كيلومتر مربع، أي حوالي ربع مساحة لبنان.
وتستثمر مياه النهر في ري الأراضي الزراعية وتستخدم للشرب في محافظتي الجنوب والبقاع من خلال عدة مشاريع ري انشأتها المصلحة الوطنية لنهر الليطاني. كما أن الليطاني شريك أساسي في مجال الطاقة إذ أنشئت على ضفافه أربعة معامل لإنتاج وتوليد الطاقة الكهرومائية التي توضع بتصرف مؤسسة كهرباء لبنان وتغذي العديد من البلدات.
هذه المشاريع التي تلعب دوراً هامّاً في اقتصاد لبنان، أصبحت عُرضة للتوقف بسبب التلوّث والتعديات المستمرة على النهر، لا سيما في الحوض الأعلى منه الذي يتغذى من نهر الغزيل ونهر البردوني.
في مقابلةٍ مع د. سامي علوية مدير عام مصلحة الليطاني، وصف الحوض الأعلى للنهر بأنه "مجرور حقيقي"، وبأن "مجراه يحتوي على 35 مليون متر مكعب من الصرف الصحي والصرف الصناعي"، مشيراً إلى أن بحيرة القرعون التي تستثمر في توليد الطاقة الكهرومائية تحتوي على 20 مليون متر مكعب من الصرف الصحي.
بحسب د. علويه، إن "عدم تطبيق القوانين والتعدي الفاضح على البيئة والنهر من قبل بعض رؤساء البلديات وبعض أصحاب المصانع والمستشفيات واستخدام العديد من المواطنين في ري مزروعاتهم، مياه الحوض الأعلى غير الصالحة للري، يسبب مرض وموت مواطنين آخرين ذنبهم أنهم يسكنون إلى جوار النهر أو يأكلون من سمومه".
© • •
Litani River Pollution - An Nahar Newspaper 2018
نهر الغزيل، أحد أهم روافد الليطاني، يُعدّ الملوث الأكبر لنهر الليطاني، يليه نهر البردوني ونهر قب إلياس . هذه الروافد الثلاثة تصبّ في مجرى الحوض الأعلى بعد مرورها بعدة بلدات ومناطق زراعية، فتشكل خطراً على النظام الطبيعي والايكولوجي.
يتغذى نهر الغزيل على ثلاثة ينابيع هي عنجر وشمسين وفاعور، ويمرّ في نطاق عشرة بلدات منها برّ إلياس وعنجر ومجدل عنجر. ويعد هذا النهر في ذروة التلوث من منبعه وحتى نقطة التقائه بنهر الليطاني في بلدة المنصورة. كما يعاني الغزيل من الشحّ التام الناجم عن سوء إدارة واستثمار الموارد المائية، إذ تقوم بعض الجهات الرسمية بسحب وضخ كافة مياه نبع شمسين ونبع عنجر. أما نبع فاعور فهو ملوث من المصدر بسبب تحويل مياه الصرف الصحي مباشرةً إليه.
ويقول خبراء أن حوالي %25 فقط من المدن والقرى في البقاع مجهزة بشبكة صرف صحي لكن العديد منها في وضع سيئ أو خارج الخدمة أو غير مرتبط بمحطات معالجة، فتقوم البلديات بالتخلص من المياه المبتذلة من خلال صبها في الأنهر والبحيرات.
أما البلدات التي لا تمتلك شبكات صرف صحي، فتعتمد على حفر صحية معظمها لا يتمتع بالمواصفات الفنية المطلوبة وينتج عنها تسرب المياه المبتذلة إلى المياه الجوفية لتشكل تهديداً للصحة العامة.
بشار ناصر، مدير مكتب المصلحة الوطنية في البقاع، قال لنا إن "غالبية البلديات والمطاعم والمعامل وأيضاً مزارع ومسالخ الأبقار المجاورة لنهر الغزيل تصبّ المياه المبتذلة ومياه الصرف الصحي غير المعالجة في مجرى النهر بالإضافة إلى الرمي العشوائي للنفايات الصلبة على ضفاف النهر".
يضيف ناصر أن "المستشفيات التي تعمل ليلاً نهاراً لمعالجة المرضى ترمي هي أيضاً نفاياتها الصلبة والسائلة من صرفٍ صحي ودماء المرضى في نهر الغزيل، وكذلك هو حال العديد من محطات الوقود التي تصب زيوتها مباشرةً في النهر دون حسيب أو رقيب". أما الوحدات السكنية التي أنشئت على ضفاف نهر الليطاني وروافده للنازحين السوريين، فقد "زادت الأمر سوءًا" بحسب ناصر، "خصوصاً بعدما تم تحويل المياه العادمة الناتجة عن المخيمات نحو مجرى النهر وبموافقة بعض البلديات".
على الرغم من الرغوة البيضاء التي تطفو على وجه النهر واللون الداكن الذي يتشح به، شاهدنا ثلاثة من الأهالي يصطادون الأسماك منه. هؤلاء الصيادون هم على يقين بشدة التلوث لكنهم يصطادون السمك بهدف بيعه، متذرّعين بأن "النار تطهر كل شيء" كما قال لنا أحدهم.
بيد أن المتخصصين في علم التغذية لديهم رأي أخر، إذ يؤكدون أن الأسماك التي تعيش في مياه ملوثة تخزّن السموم والمعادن الثقيلة في أنسجتها الدهنية، فتشكل ضررا على صحة كل من يتناولها، وقد تؤدي إلى اختلال عمل الغدد الصماء واضطرابات عصبية وأمراض سرطانية.
بعد الجولة التي قمنا بها لنتفقد العديد من الروافد التي تغذي وتلوث نهر الليطاني قمنا بزيارة مخيم "رامي سلطان" أحد مخيمات النازحين السوريين التي انشئت على ضفاف النهر. التلوث بدا واضحاً، المياه هناك سوداء داكنة والرائحة كريهة.
المسؤولة عن هذا المخيم السيدة أميرة مخالد أكدت لنا أن "المخيم يقوم بالإجراءات اللازمة للتخلص من مياه الصرف الصحي بواسطة عمليات النضح المستمرة التي تقوم بها باستمرار مفوضية الأمم المتحدة التي تعنى بشؤون النازحين السوريين".
وفي زيارةٍ إلى مخيم آخر على ضفاف الغزيل شاهدنا بأم العين أنابيب مياه الصرف الصحي موجهة مباشرة إلى مجرى النهر، محاطة بأكوام من النفايات. أما المشهد المريب فكان رؤية الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات يلعبون قرب النهر وينامون في مخيمات موحلة ومروية من مياه النهر الملوثة.
سكان منطقة بر إلياس يعانون كغالبية القرى الواقعة على ضفاف النهر من الأمراض الخطيرة الناجمة عن التلوث، كالتحسس الجلدي والغثيان والإسهال، الولادات المبكرة والاجهاض، والإصابات بمرض السرطان، لاسيما سرطان القولون والكلى لدى الأطفال وكبار السن. وهناك أكثر من 600 حالة سرطان في بر إلياس وحوش الرافقة، وأكثر من إصابة ضمن العائلة الواحدة. حتى أن أحد سكان منطقة بر إلياس نصحنا بالابتعاد عن النهر تجنباً لالتقاط الجراثيم وتنشق الروائح الكريهة.
وبحسب سكان بر إلياس، فإن البلديات لا تقوم بواجباتها تجاه المواطنين ولا تنضح حفر الصرف الصحي المنزلي، على الرغم من تلقيها رسوماً من السكّان لقاء هذه الخدمة.
ويقول البعض إن البلديات تلجأ إلى "أسهل الحلول" كصبّ المياه العادمة في الأنهر المجاورة دون أي محاولة لتنظيف مجاريها، معتمدة على الطبيعة وسيولها، لعل السيول والأمطار تزيل جزأ من هذا التلوث.
ويبقى المتضرر الأكبر على ما يبدو هو المواطن اللبناني، خاصةً سكان البقاع الغربي والأوسط. فبسبب هذه الأزمة انخفضت أسعار الأراضي المتواجدة بالقرب من النهر فأصبح المواطنون عاجزين عن بيعها وشراء بديلٍ عنها في مكانٍ آخر أكثر أماناً. وهي أزمة طالت أيضاً المزارعين الذين أصبحوا غير قادرين على تصدير محاصيلهم الزراعية إلى خارج لبنان. كما أن ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان، رفعت أيضاً عبء الفاتورة الصحية على المواطن وعلى وزارة الصحة.
أما اقتصادياً، فقد طالت هذه الأزمة مؤسسة المياه في البقاع بالدرجة الأولى بعد أن أدت إلى توقف بعض مشاريع الري، وطالت أيضاً وزارة الطاقة، فمحطات توليد الطاقة الكهرومائية الوحيدة في لبنان معرضة للتوقف.
ويبقى الاستثمار الأنجح لحل أزمةٍ كهذه هو تطبيق القوانين لاسيما "قانون مكافحة تلوث الليطاني" الذي أقره مجلس النواب اللبناني في تشرين الأول عام 2016، في حين يقترح خبراء استغلال ينابيع المياه العذبة التي تنبع في البحر المتوسط بالقرب من الشاطئ اللبناني، والتي قد تضاهي أهم الأنهر إذا ما تم استغلالها كما يجب إلى حين إيجاد حلول جذرية لأزمة التلوث.
Share this page on